سورة المجادلة
سُورةُ المجادلة سورة مدنيَّة بالإجماع،[2] من المُفصل إِلَّا ما ذُكر في «تفسير القُرطُبِيِّ» أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنها مدنِيٌّ وَبَاقِيَهَا مَكِّيٌّ.[1] وقال محمد بن السائب الكلبي: نزل جميعها بالمدينة؛ غير قوله: ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ﴾ فإنَّها نزلت بمكة.[3] آياتُها اثنتان وعشرون، وهي في المصحفِ السورةُ الثامنة والخمسون، أما في ترتيب النزول فالثالثة بعد المئة،[4] إذ نزلت بعد سورة المنافقون وَقبل سُورَةِ التَّحْرِيم.[4][5] وهي السُّورةُ الأولى في الجزء الثامن والعشرين في القرآن؛ بدأت بأسلوب توكيد: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾، ذُكر لفظ الجلالة في جميع آياتها، لتكون بذلك السورة الوحيدة في القرآن التي تكرر لفظ الجلالة في كل آية من آياتها؛ قال الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن: «كل آية منها فيها اسمه تعالى وهي سورة المجادلة».[6] سُمِّيتْ في كُتُبِ التَّفسِير وفي المصاحف وكتب السُّنَّة «سورة المجادلة»،(1) وَتُسَمَّى «سُورَةُ قَدْ سَمِعَ»، وسُمِّيت في مُصحف أُبيِّ بن كعب «سُورَةُ الظِّهَارِ». وسُميّت السُّورةُ «سُورة المُجَادِلة»؛ لِأَنَّها اِبتدأْت بِقضِيَّة مُجادلة امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامت لما ظاهر منها زوجها، وجاءت النبيَّ محمدًا فأجابها بأنَّها قد حرمت على زوجها، ولم تزل تراجعه حتى أنزل الله هذه الآيات التي بينت حكم الظهار.[1] ومن الأحكام المُستنبطة من السُّورة:[7][8] حكم الظهار وكفارته في الإسلام، وحكم موالاة غير المؤمنين. ومن الآداب التي اشتملت عليها: «آدابُ مجلِس الرَّسُول ﷺ»[4] وَالتَّصَدُّقُ «قبل مُناجاة الرَّسُول ﷺ».[4] التَّسميةللسورة العديد من الأسماء، ولكن الاسم الذي اُشتُهرت به هو «المُجَادِلة»،(2) وكسر الدّال أظهر لأنّ السّورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقةٌ أن تُضاف إلى صاحبة الجدال خولة بنت ثعلبة، وهي التي ذكرها الله بقوله: ﴿الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾.[1] أما «المُجادَلة»(3) «فَهُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ تُجادِلُكَ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّحَاوُرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما».[1] سبب تسمية السورة بالمُجادلة؛ لأنها اشتملت على قصة المرأة التي جاءت تُجادل النبي محمدًا وهي خولة بنت ثعلبة، والتي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، وافتتحت السورة بها.[1] وسُميت في مصحف أبي بن كعب «سورة الظهار» وسبب هذه التَّسمِّية ذكر واقعة الظهار فيها، بالإضافة إلى بيان حُكمه.[9] وتُسمى أيضًا بسورة «قد سمع» وذلك لافتتاحها بقوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾. أسباب النزولذَكَرَ المفسرون سببَ نزولِ أولِ سورة المجادلة، أنّها نزلت في المرأة التي جاءت تُجادل النَبِيَّ مُحَمَّداً في شأن زوجها، وحكمِ الظهارِ الذي وقع منه عليها. وفي ضوء ذلك ذكر الإمام الواحدي بسنده عن عائشة أنها قالت: «تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ. إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ. قَالَتْ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}.»[وب 1][10][11] وأخرج أبو داود بسنده عن خولة بنت ثعلبة،(4) قالت: «ظاهر منِّي زَوجي أوسُ بنُ الصَّامتِ فَجِئْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أشكو إِليهِ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يجادِلُني فيهِ ويقولُ اتَّقي اللَّهَ فإنَّهُ ابنُ عمِّكِ فما بَرِحْتُ حتَّى نزلَ القرآنُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا إلى الفَرضِ فقالَ يُعتِقُ رقَبةً قالَت لا يَجِدُ قالَ فيَصومُ شَهْرينِ مُتَتابِعَينِ قالَتْ يا رسولَ اللَّهِ إنَّهُ شيخٌ كبيرٌ ما بهِ مِن صيامٍ قالَ فَليُطعِمْ ستِّينَ مِسكينًا قالَتْ ما عندَهُ مِن شيءٍ يتَصدَّقُ بهِ قالَت فأُتِيَ ساعتَئذٍ بعَرَقٍ من تَمرٍ قُلتُ يا رسولَ اللَّهِ فإنِّي أعينُهُ بِعَرَقٍ آخرَ قالَ قد أحسَنتِ اذهَبي فأطعِمي بِها عنهُ ستِّينَ مسكينًا وارجِعي إلى ابنِ عمِّكِ قالَ والعَرَقُ ستُّونَ صاعًا.»[وب 2][12] نزلت الآية الثامنة في قوم من اليهود نهاهم رسول الله عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس نزلت في اليهود والمنافقين.[13] وفي صحيح مسلم عن عائشة أن أناسا من اليهود أتوا النبي فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله: مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش فأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ٨﴾ [المجادلة:8].[14] وأخرج ابن جرير عن قتادة أن المنافقين كانوا يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ويكبر عليهم، فأنزل الله قوله: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ١٠﴾ [المجادلة:10]، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند الرسول فنزلت الآية الحادية عشرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١﴾ [المجادلة:11].[15] أما الآية الرابعة عشرة فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (يدخُلُ عليكم رجلٌ ينظرُ بعينِ شيطانٍ أو بعينَيْ شيطانٍ قال: فدخَل رجلٌ أزرقُ فقال: يا محمدُ عَلامَ سَبَبْتَني أو شتمتني أو نحوَ هذا قال: وجعل يحلِفُ) قال: فنزلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.[16] ونزلت الآية الثانية والعشرون في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر.[17] وقال ابن جريج: «حُدّثت أن أبا قحافة سب النبي ﷺ فصكه أبو بكر فسقط فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: أفعلت با أبا بكر فقال والله لو كان السيف قريبا مني لضربته به فنزلت هذه الآية.»[17] زمن النزولنزلت هذه السورة في المدينة، أي بعد هجرة النبي محمد، وهي السورة المائة وثلاث في عدد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة المنافقون وقبل سورة التحريم، وهذا يعني أنّ الأصل في نزول سُّورَة المجادلة كان بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، إذ إن سورة المنافقون نزلت بعد غزوة بني المصطلق، في السنة الخامسة من الهجرة.[18][19] وقال علم الدين السخاوي: «نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين، وقبل سورة الحجرات.»[20] وقال محمد الطاهر بن عاشور:«والّذي يظهر أنّ سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب؛ لأنّ اللّه تعالى قال في سورة الأحزاب: «وما جعل أزواجكم اللّائي تظاهرون منهنّ أمّهاتكم» (الأحزاب:4)، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظّهار بما في سورة المجادلة؛ لأنّ قوله: ما جعل يقتضي إبطال التّحريم بالمظاهرة. وإنّما أبطل بآية سورة المجادلة.»[1] مكانها وترتيبها في القرآنهذه السورة أول النصف الثاني من القرآن، فقبلها في المصحف سبعٌ وخمسون سورة (من أصل أربع عشر ومئة). وفي عدد أجزاء القرآن هي أول العُشر الأخير،[21] وقد سبقها في الترتيب سورة الحديد، والسورة التي تليها سورة الحشر.[22] مناسبتها لِما قبلهايأتي اتصال سُورة المُجَادِلة فيما قبلها وهي سورة الحديد، وذلك أن سورة الحديد خُتمت بذكر فضل الله على عباده في قوله تعالى:﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فناسبت ما بدأت فيه سورة المجادلة من بيان الفضل الإلهي، ومن هذا الفضل بيان أحكام الظهار بعد أن كانت المرأة تُحرم على زوجها في الجاهلية. وبين الإمام السيوطي: «لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٤﴾ [الحديد:4]، افتتح هذه – أي: المجادلة - بذِكْر أنه سمع قول المجادلة، التي شكت إليه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - حين نزلت: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول."»[23] مناسبتها لِما بعدهااختتمت الآية الأخيرة في سورة المجادلة بالحديث عن حزب الله ووصفهم بأنهم عباد الله المنصورين في الدنيا والآخرة وذلك في قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وقد بدأت السورة التي تلي سورة المجادلة وهي سورة الحشر بنصر الله المسلمين على أعدائهم اليهود في غزوة بني النضير، وذلك في قوله تعالى:﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ٢﴾ [الحشر:1–2].[24] مقاصد السورةاشتملت السُورة على مقاصد عدة ومنها أنها عالجت قضايا كانت تُؤرق مجتمع المسلمين، وبينت التشريع اللازم لحل المشكلات بين أفراده، كما أنها بينت الآداب الإسلامية التي يحتاج إليها المجتمع، بالإضافة إلى أنها لفتت أنظار المسلمين إلى أعدائهم في الدين، وحددت العلاقة معهم.[4] وفي ذات السياق قال الإمام برهان الدين البقاعي: «مقصودها الإعلام بإيقاع البأس الشديد، الذي أشارت إليه الحديد، بمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم، اللازم عنه تمام القدرة، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال، وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر فكثرة.»[25] موضوعات السُّورةالمجادلةابتدأت السورة بشكوى خولة بنت ثعلبة، التي اشتكت زوجها إلى النبي بعد أن حرمها على نفسه، وفقًا لتفسير الميزان فقد ذكر الطباطبائي أن من أقسام الطلاق عند العرب في الجاهلية أن يقول الرجل لامرأته: «أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه وتحرم عليه مؤبدة».(5)[26] وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها سمعت خولة تقول للنبي:[27] «يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك» فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ١﴾ [المجادلة:1]، فقال لها النبي: «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنًا» وقال: «مريه فليعتق رقبة»، فقالت خولة: « يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينًا وفقا من تمر، فقالت: والله يا رسول ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا سنعينه بعرق من تمر، قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر قال: قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عنك خيرًا، قالت: ففعلت».[28] بينت الآية الثانية حكم الظهار؛ وذلك بتحريمه ووصفه بقول الزور وقول المنكر ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ﴾، والفعل الذي يُوصف بهذا الوصف، يجب على المؤمن أن يتنزه عنه، وقد اتفق العُلماء على حرمته فلا يجوز الإقدام عليه، لأنه كذب وزور وبهتان، وهو يختلف عن الطلاق، فالطلاقُ مشروع، والظهار محرم، ولو أقدم الإنسان عليه يكون قد ارتكب محرماً ويجب عليه الكفارة.[29] قال ابن الفرس: «هُوَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ إِيقَاعُهُ»، ودل على تحريمه ثلاثة أشياء؛ ابتداءً من تكذيب اللَّه تعالى من فعل ذلِك، الثَّانِي: أَنَّهُ سمَّاهُ مُنْكرًا وزُورًا، والزُّورُ الكذِبُ وهُو مُحرَّمٌ بِإِجماع، الثَّالِثُ: إِخْبَارُهُ تعالى عنهُ بأَنَّهُ يعفُو عنهُ ويَغفِرُ ولا يُعفي وَيُغْفَرُ إِلَّا على المُذنِبِين.[30](6) ثم فصلت الآية الثالثة والرابعة من السورة كفارة الظهار وما يجب على من وقع في ذلك فقال:[31] ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٣ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤﴾ [المجادلة:3–4] وعليه؛ فإن كفّارة الظّهار تجب على الترتيب: تحريرُ رقبةٍ، ثم صيام شهرين لِمن لم يجد الرَّقبة، ثمَّ إطعام ستين مسكينًا لمن لم يستطع الصيام. وجه الدَّلالة أن الأصل بقاءُ الترتيب وذلك وفقًا للإجماع على ذلك:[8]
وقد اختلف العلماء في معنى «العود» بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾، فقِيل:[35] معناه العزم على جماع من ظاهر منها، وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة، ويدل على هذا، أن الله تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس، وذلك إنما يكون بمجرد العزم، وقيل: معناه حقيقة الوطء، ويدل على ذلك أن الله قال: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ والذي قالوا إنما هو الوطء.[36] ووفقًا لمذاهب جمهور الفقهاء على وجه الخصوص الحنفية والمالكية، والحنابلة؛ يُحرم إتيان الزوجة حتى يكفّر كفارة الظهار لقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾.[37] آداب المجالستذكر السورة آداب التناجي في المجالس بداية من الآية السابعة وحتى الحادية عشر:[وب 3] وهو الكلام سرًا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان، كما كان يفعل اليهود والمنافقون، وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر؛ وذلك في قوله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، فقد ذكر ابن عباس أن هذه الآية نزلت في المنافقين واليهود، حيث كانوا يتناجون فيما بينهم من دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم ظنّوا أنه قد بلغهم خبرٌ عن قتلٍ أو هزيمةٍ أو مصيبةٍ حلّت بإخوانهم وأقاربهم الذين خرجوا في السرايا، فكان المؤمنون يحزنون لذلك حتى يرجع إخوانهم وأقاربهم، فلمّا طال ذلك وكثُر، شكوا إلى النبي، فأمرهم بعدم التناجي من دون المسلمين، ولكنهم لم ينتهوا وعادوا للمناجاة.[38][39] وبينت الآيات خبث اليهود ومكرهم حينما كانوا يحيون النبي محمد يتحيةٍ ظاهرها السلام وباطنها الأذى والسب.[وب 4] وجاء في رواية للإمام مسلم عن عائشة أم المؤمنين أن اليهود أتوا إلى النبي فقالوا: «السَّامُ عليك»، يُوهِمون النَّبيَّ ومن معه أنَّهم يُلْقُون عليهم تحيَّةَ الإسلام، والحقيقةُ أنَّهم يدعون عليهم، والسَّامُ: الموتُ والهَلَكةُ ولكِنَّ النَّبيَّ قدْ فَطِنَ لقولِهم ورَدَّ عليهم وقال: «وعليكم»، ومعنى جوابِه: وعليكمْ مِثْلُ ما قُلتُم مِن الدُّعاء.[وب 5](7) ثمَّ أقرَّت الآيات أنّه على كلِّ مسلم يريد محادثة الرسول فعليه أن يُقدم صدقة، والسبب في ذلك أن المسلمين أكثروا المناجاة للنبي محمد حتى شق عليه ذلك فخفف الله على النبي ورفع عنه الحرج بمشروعية الصدقة لِمن كان له حاجة في مناجاته. وعندما شقَّ الأمر على المسلمين خفَّف الله وأمرهم بالنافلة من صلاة وزكاة وطاعة وغير ذلك. وفي ذات السياق ذكر مقاتل بن سليمان: «نزلت الآية في الأغنياء وذلك أنهم كان يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة.»[40] تأتي الآيات من الحادية عشر حتى الثالثة عشر لذكر أدب التفسح في المجالس، وطلب مُغادرته، وأشادت بالمؤمنين الذين يمثلون لأوامر الله وأوامر رسوله وذلك لقوله:[41][42] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١﴾ [المجادلة:11]. وسبب نزول هذه الآية وفقًا لِما ذكره الإمام الواحدي عن مقاتل بن حيان:[43] «كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول، فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، وشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرفت الكراهية في وجوههم، وطعن المنافقون في ذلك، وقالوا: والله ما عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فنزلت هذه الآية». وأضاف الإمام القرطبي: «الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه.»[44] الآيات 14-22يخبر الله عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين، من اليهود والنصارى وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين، ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ فليسوا مؤمنين ظاهرًا وباطنًا لأن باطنهم مع الكفار، ولا مع الكفار ظاهرًا وباطنًا، لأن ظاهرهم مع المؤمنين، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به.[45] ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني:[46] «أن المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله له أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك». هؤلاء المنافقون ليسوا من المؤمنين ولا من اليهود، بل هم مُذَبْذَبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ويحلفون بأنهم مسلمون وبأنهم ما نقلوا أخبار المسلمين لليهود، وهم كاذبون في حلفهم. ثم بينت الآية التي تليها جزاء هؤلاء المنافقين أن الله أعد لهم عذابا شديدا، وذلك في قوله تعالى:﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[47][48] وبينت الآيات الأخيرة في سورة المجادلة أن العاقبة لرسل الله، وأن النصرة لهم، وأن الذلة لمن يحارب الله ورسوله، ثم تختم السورة بآية تبين أن الإيمان الحقيقي هو الذي لا يكون معه مودة لمن يحارب الله ورسوله، وأن الإيمان الحقيقي لا يجتمع مع الموالاة لأعداء الله. ثم يرد تنويه في آخر الآية بأن حزب الله هم عباد الله وأهل كرامته وبفلاحهم وسعادتهم ونصرهم في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٢٢﴾ [المجادلة:22].[49][50] الأحكام المُستنبطة من السُّورةاشتملت سورة المجادلة على أحكام وآداب تعالج قضايا مُجتمعية من شأنها إصلاح سلوك الفرد والمجتمع، وقد ورد فيها عدد من الأحكام الإسلاميّة على وجه الخصوص؛ أحكام الظهار والكفارة الواجبة على المُظاهر، حكم النجوى، وآداب المجالس، وتقديم الصدقة عن مناجاة النبي محمد، وحكم الموالاة.[7][8] وقد ذكر مجد الدين الفيروزآبادي: «معظم مقصود السورة: بيان حُكْم الظِّهار، وذكر النجوى والسّرار، والأَمر بالتَّوسع في المجالس، وبيان فضل أَهل العلم، والشكاية من المنافقين، والفرق بين حِزب الرّحمن، وحزب الشيطان، والحكم على بعض بالفلاح، وعلى بعض بالخسران، في قوله: «هُمُ الخَاسِرُونَ» و«هُمُ المُفْلِحُوْنَ».»[51] ما يُميّز السورةتكرار لفظ الجلالةقال الإمام برهان الدين البقاعي: «وتكرر الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة، تكريرًا لم يكن في سواها، بحيث لم تخل منه آية، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر، فكثيرة.» وتأسيسًا على ذلك؛ تكرر لفظ الجلالة في سورة المجادلة واحدًا وأربعين مرة، ابتداءً من ذكره في البسملة، ومن ثم ذُكر اللفظ أربع مرات في الآية الأولى، وثلاث في الآية الحادية عشر، وخمس مرات في الآية الأخيرة. وفي ذات السياق تكرر لفظ الجلالة في بقيت الآيات حيثُ ورد كل منها المرة، والمرتين.[وب 6] حزب اللهكلمة حزب الله لم ترد في القرآن إلا مرتين، مرة في معرض الكلام عن الولاء في سورة المائدة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾، ومرة في معرض الكلام عن المودة في سورة المجادلة في قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فلا يكون الإنسان من حزب الله إلا إذا صفت مودته، وصفى ولاؤه للمؤمنين، وحجب ولاءه ومودته عن الكافرين والمنافقين.[52] الاختلاف في عدد الآيات والقراءاتعدد الآياتالخلاف في عدد آياتها:
وتفسيرًا لذلك فإن مواضع الاختلاف في آية :«أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» حيثُ لم يعدها المدني الأخير والمكي وعدها الباقون. قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيّ: «اختلافهم في موضع واحد «في الأَذَلِّينَ» عده غير المدني الأخير والمكي لانقطاع الكلام ولم يعده المدني الأخير والمكي لعدم الموازنة، واتفقوا على ترك عد قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾»[55] اختلاف القراءات
الأساليب البلاغية في سورة المجادلةتضمنتها سُورة المجادلة العديد من الأساليب البلاغية، وقد ذكر بعض العلماء في التفسير واللغة العديد منها، مثل:
الهوامش
المراجعفهرس المراجع
معلومات المراجع المُفصَّلة
وصلات خارجية |