ابن سريج المغني
هو عبيد بن سريج، ويكنى أبا يحيى، مولى بني نوفل بن عبد مناف، مغني من أهل الحجاز أشتهر بالعصر الأموي وبرع بالغناء والعزف على العود تعريف
وكان من أحسن الناس غناءً، وكان يغني مرتجلاً ويوقع بقضيبٍ، وغنى في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومات في خلافة يزيد بن عبد الملك، وكان يلقب “وجه الباب” ولا يغضب من ذلك. وكان ابن سريج بعد وفاة عبد الله بن جعفر قد انقطع إلى الحكم بن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب أحد بني مخزوم، وكان من سادة قريش ووجوهها. وأخذ ابن سريج الغناء عن سعيد بن مسجح. وقال إسحاق: وأصل الغناء أربعة نفر: مكيان ومدنيان، فالمكيان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيان: معبد المغني ومالكٌ. قالوا عنه
تشكى الكميت الجري لما جهدته أيهما أحسن؟ فصرت إليه فسألته عن ذلك، فقال لي: يا أبا الحسن، والله لقد أخذت بخطام راحلته فزعزعتها وأنختها وقمت بها فما بلغته. فرجعت إلى محمد بن الحسين فأخبرته؛ فقال: والله إنه ليعلم أن لحنه أحسن من لحن ابن سريج، ولقد تحامل لابن سريج على نفسه، ولكن لا يدع تعصبه للقدماء. وقد أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى هذا الخبر عن أبيه، فذكر نحو ما ذكره جحظة في خبره ولم يقل: أرسلني محمد بن الحسين إلى إسحاق. وقال جحظة في خبره: قال علي بن يحيى: وقد صدق محمد بن الحسين؛ لأنه قلما غني في صوتٍ واحدٍ لحنان فسقط خيرهما، والذي في أيدي الناس الآن من اللحنين لحن إسحاق، وقد ترك لحن ابن سريج، فقل من يسمعه إلا من العجائز المتقدمات ومشايخ المغنين. هذا أو نحوه. لحن إسحاق في تشكى الكميت مأخوذ من لحن الأبجر في يقولون. أبكاك البيت شهرتة بالغناء
يا عين جودي بالدموع السفـاح وابكي على قتلى قريش البطاح فاستحسن الناس ذلك منه، وكان أول من ندب به.
يا أرض ويحك أكرمي أمواتي فلقد ظفرت بسادتي وحماتي فقدمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة والمدينة والطائف . وقيل: أن سكينة بعثت إليه بمملوك لها يقال له عبد الملك، وأمرته أن يعلمه النياحة، فلم يزل يعلمه مدة طويلة، ثم توفي عمها أبو القاسم محمد بن الحنفية، وكان ابن سريج مريضا فلم يقدر على النياحة. فقال لها عبدها عبد الملك: أنا أنوح لك نوحاً أنسيك به نوح ابن سريج. قالت: أو تحسن ذاك؟ قال نعم. فأمرته فناح؛ فكان نوحه في الغاية من الجودة، وقال النساء: هذا نوحٌ غريض؛ فلقب عبد الملك المغني الغريض. وأفاق ابن سريج من علته بعد أيام وعرف خبر وفاة ابن الحنفية، فقال لهم: فمن ناح عليه؟ قالوا: عبد الملك غلام سكينة. قال: فهل جوز الناس نوحه؟ قالوا: نعم وقدمه بعضهم عليك. فحلف ابن سريج ألا ينوح بعد ذلك اليوم، وترك النوح وعدل إلى الغناء، فلم ينح حتى ماتت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، وكانت قد أخذت عنه وأحسنت إليه فناح عليها، ثم ناح بعدها على يزيد بن عبد الملك، ثم لم ينح بعده حتى مات . ولما عدل ابن سريج عن النوح إلى الغناء عدل معه الغريض إليه، فكان لا يغني صوتاً إلا عارضه فيه ابن سريج وعطاء بن أبي رباح .
صوت إن الذين غدوا بلبك غـادروا وشلاً بعينك لا يزال معينـا غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فلما سمعه عطاءٌ اضطرب اضطراباً شديداً ودخلته أريحية، فحلف ألا يكلم أحداً بقية يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام؛ فكان كل من يأتيه سائلاً عن حلالٍ أو حرامٍ أو خبرٍ من الأخبار، لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعد هذا ولا تعرض له. ابن سريج ويزيد بن عبد الملكحج عمر بن أبي ربيعة في عامٍ من الأعوام على نجيبٍ له مخضوبٍ بالحناء مشهر الرحل بقرابٍ مذهبٍ، ومعه عبيد بن سريج على بغلةٍ له شقراء، ومعه غلامه جنادٌ يقود فرساً له أدهم أغر محجلاً، وكان عمر بن أبي ربيعة يسميه “الكوكب” في عنقه طوق ذهبٍ – وجنادٌ هذا هو الذي يقول فيه: صوت فقلت لجنادٍ خذ السيف واشـتـمـل عليه برفقٍ وارقب الشمس تغـرب وأسرج لي الدهماء واعجل بممطري ولا تعلمن خلقاً من الناس مذهبـي وكان ومع عمر جماعةٌ من حشمه وغلمانه وعليه حلة موشيةٌ يمانية، وعلى ابن سريج ثوبان هرويان مرتفعان، فلم يمروا بأحدٍ إلا عجب من حسن هيئتهم، وكان عمر من أعطر الناس وأحسنهم هيئةً، فخرجوا من مكة يوم التروية بعد العصر يريدون منىً، فمروا بمنزل رجلٍ من بني عبد منافٍ بمنىً قد ضربت عليه فساطيطه وخيمه، ووافى الموضع عمر فأبصر بنتاً للرجل قد خرجت من قبتها، وستر جواريها دون القبة لئلا يراها من مر. فأشرق عمر على النجيب فنظر إليها، وكانت من أحسن النساء وأجملهن. فقال لها جواريها: هذا عمر بن أبي ربيعة. فرفعت رأسها فنظرت إليه، ثم سترتها الجواري وولائدها عنه وبطن دونها بسجف القبة حتى دخلت. ومضى عمر إلى منزله وفساطيطه بمنىً، وقد نظر من الجارية إلى ما تيمه ومن جمالها إلى ما حيره، فقال فيها: نظرت إليها بالمحصب مـن مـنـى ولي نظرٌ لولا الـتـحـرج عـارم فقلت أشمسٌ أم مـصـابـيح بـيعةٍ بدت لك خلف السجف أم أنت حالـم بعيدة مهوى القرط إمـا لـنـوفـلٌ أبوها وإما عبد شـمـسٍ وهـاشـم ومد عليها السجـف يوم لـقـيتـهـا على عجلٍ تبـاعـهـا والـخـوادم فلم أستطعها غير أن قـد بـدا لـنـا على الرغم منها كفها والمعـاصـم معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجهٌ لم تلحه الـسـمـائم نضـيرٌ تـرى فـيه أسـاريع مـائه صبيحٌ تغاديه الأكـف الـنـواعـم إذا ما دعت أترابها فاكتـنـفـنـهـا تمايلن أو مالت بـهـن الـمـآكـم طلبن الصبا حتى إذا مـا أصـبـنـه نزعن وهن المسلمات الـظـوالـم ثم قال عمر لابن سريج: يا أبا يحيى، إني تفكرت في رجوعنا مع العشية إلى مكةٍ مع كثرة الزحام والغبار وجلبة الحاج فثقل علي، فهل لك أن نروح رواحاً طيباً معتزلاً، فنرى فيه من راح صادراً إلى المدينة من أهلها، ونرى أهل العراق وأهل الشأم ونتعلل في عشيتنا وليلتنا ونستريح؟ قال: وأنى ذلك يا أبا الخطاب؟ قال: على كثيب أبي شحوة المشرف على بطن يأجج بين منىً وسرف، فنبصر مرور الحاج بنا ونراهم ولا يرونا. قال ابن سريج: طيبٌ والله يا سيدي. فدعا بعض خدمه فقال: اذهبوا إلى الدار بمكة، فاعلموا لنا سفرةً واحملوها مع شرابٍ إلى الكثيب، حتى إذا أبردنا ورمينا الجمرة صرنا إليكم – قال: والكثيب على خمسة أميالٍ من مكة مشرفٌ على طريق المدينة وطريق الشأم وطريق العراق، وهو كثيبٌ شامخٌ مستدقٌ أعلاه منفرد عن الكثبان – فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدف فنقره وجعل يغني وهم ينظرون إلى الحاج. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته يغني في الشعر الذي قاله عمر، فسمعه الركبان فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت أما تتقي الله! قد حبست الناس عن مناسكهم! فيسكت قليلاً، حتى إذا مضوا رفع صوته وقد أخذ فيه الشراب فيقف آخرون، إلى أن مرت قطعةٌ من الليل، فوقف عليه في الليل رجلٌ على فرسٍ عتيقٍ عربي مرح مستن فهو كأنه ثملٌ، حتى وقف بأصل الكثيب وثنى رجله على قربوس سرجه، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن ترد شيئاً مما سمعته. قال: نعم ونعمة عينٍ، فأيها تريد؟ قال: تعيد علي: ألا يا غراب البين مالك كلمـا نعبت بفقدانٍ علـي تـحـوم أبالبين من عفراء أنت مخبري عدمتك من طيرٍ فأنت مشوم – فأعاده، ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت. فقال: غنني: أمسلم إنـي يابـن كـل خـلـيفةٍ ويا فارس الهيجا ويا قمر الأرض شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقـى وما كل من أقرضته نعمةً يقضي ونوهت لي باسمي وما كان خاملاً ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فغناه، فقال له: الثالث ولا أستزيدك. فقال: قل ما شئت. فقال: تغنيني يا دار أقوت بالجزع فالكثب بين مسيل العذيب فالرحـب لم تتقنع بفضـل مـئزرهـا دعدٌ ولم تسق دعد في العلب فغناه. فقال له ابن سريج: ابقيت لك حاجةٌ؟ قال: نعم، تنزل إلي لأخاطبك شفاهاً بما أريد. فقال له عمر: انزل إليه، فنزل. فقال له: لولا أني أريد وداع الكعبة وقد تقدمني ثقلي وغلماني لأطلت المقام معك ولنزلت عندكم، ولكني أخاف أن يفضحني الصبح، ولو كان ثقلي معي لما رضيت لك بالهوينى، ولكن خذ حلتي هذه وخاتمي ولا تخدع عنهما، فإن شراءهما ألفٌ وخمسمائة دينار . اخباره وقصصه في الغناء
صوت أمن رسم دارٍ بوادي غـدر لجاريةٍ من جواري مضر خدلجة الساق مـمـكـروةٍ سلوس الوشاح كمثل القمر تزين النساء إذا مـا بـدت ويبهت في وجهها من نظر والشعر ليزيد بن معاوية. الغناء
صوت بت الخلطي قوى الحبل الذي قطعوا إذ ودعوك فولوا ثم ما رجـعـوا وآذنوك ببـينٍ مـن وصـالـهـم فما سلوت ولا يسليك ما صنعـوا والشعر للأحوص فقال عمر: لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن!
فقال إبراهيم بن المهدي، هذا من غنائه، ولكن لحن هذا الصوت نقله من لحنه في الشعر الفلاني، ولحن الثاني من لحنه الفلاني، حتى عد له الخمسة الأصوات. فقال له إسحاق: صدقت. ثم قال له إبراهيم: إن ابن سريج كان رجلاً عاقلاً أديباً، وكان يغني الناس بما يشتهون، فلا يغنيهم صوتاً مدح به أعداؤهم ولا صوتاً عليهم فيه عارٌ أو غضاضةٌ، ولكنه يعدل بتلك الألحان إلى أشعارٍ في أوزانها، فالصوتان واحدٌ لا ينبغي أن نعدهما اثنين عند التحصيل منا لغنائه، فصدقه إسحاق. فقال له إبراهيم: فأيها أولى عندك بالتقدمة؟ فقال: وإذا ما عثرت في مرطـهـا نهضت باسمي وقالت يا عمر فقال له إبراهيم: أحسبك يا أبا محمد – متعت بك – ما أردت إلا مساعدتي. فقال: لا، والله ما إلى هذا قصدت، وإن كنت أهوى كل ما قربني من محبتك. فقال له: هذا أحب أغانيه إلي، وما أحسبه في مكانٍ أحسن منه عندي، ولا كان ابن سريج يتغناه أحسن مما يتغناه جواري، ولئن كان كذلك فما هو عندي في حسن التجزئة والقسمة وصحتهما مثل لحنه في: صوت من المائة لمختارة من رواية جحظة حييا أم يعـمـــرا قبل شحطٍ من النوى أجمع الحي رحـلةً ففؤادي كذى الأسى قلت لا تعجلوا الروا ح فقالوا ألا بـلـى
تشكى الكميت الجري لما جهدته تقدير ابن أبي عتيق لابن سريج
ودع لـبـابة أن تـتـرحــلا واسأل فإن قليلـه أن تـسـألا قال ائتمر ما شئت غير مخالفٍ فيما هويت فإننا لن نعـجـلا نجري أيادي كنت تبذلها لـنـا حقٌ علينا واجبٌ أن نفـعـلا حتى إذا ما الليل جن ظـلامـه قال: فأمر غلامه فحملني على بغلته التي كانت تحته. فلما أراد الانصراف طلب الغلام مني البغلة، فقلت: لا أعطيكها، هو أكرم وأشرف من أن يحملني عليها ثم ينتزعها مني. فقال للغلام: دعه يا بني، ذهبت والله لبابة ببغلة مولاك.
تغني رقطاء الحبطية برمله من شعر ابن عمارة السلمي
يقر بعيني ما يقر بـعـينها وأحسن شيءٍ ما به العين قرت قال نعم. قال: فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقر ذلك بعينك؟! قال: وكان الأحوص يرمى بالحلاق فانصرف، فبعث إليهم بتمرٍ وفاكهة. وأقبلنا على جرير نسائله، وأشعب عند الباب وجريرٌ في مؤخر البيت، فألح عليه أشعب يسأل. فقال: والله إني لأراك أقبحهم وجهاً وأراك ألأمهم حسباً؛ فقد أبرمتني منذ اليوم. قال: إني والله أنفعهم وخيرهم لك. فانتبه جريرٌ وقال: ويحك! كيف ذاك؟ قال: إني أملح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه. فقال: قل، ويحك! فاندفع أشعب فنادى بلحن ابن سريجٍ: يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل عدل العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل فطرب جريرٌ وجعل يزحف نحوه حتى ألصق بركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت، إنك لأنفعهم لي وقد حسنته وأجدته وزينته، أحسنت والله، ثم وصله وكساه. فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء؟ قال: أو إن له لواضعاً غير هذا؟ فقلنا نعم. قال: فأين هو؟ قلنا: بمكة قال: فلست بمفارقٍ حجازكم حتى أبلغه. فمضى ومضى معه جماعةٌ ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته وكنت فيهم، فأتيناه جميعاً، فإذا هو في فتيةٍ من قريشٍ كأنهم المها مع ظرفٍ كثيرٍ، فأدنوا ورحبوا وسألوا عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال: سل ما تريد جعلت فداءك! قال: أريد أن تغنيني لحناً سمعته بالمدينة أزعجني إليك. قال: وما هو؟ قال: يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل عذل العذل فغناه ابن سريج وبيده قضيبٌ يوقع به وينكت، فوالله ما سمعت شيئاً قط أحسن من ذلك. فقال جرير: “لله دركم” يا أهل مكة، ما أعطيتم! والله لو أن نازعاً نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظاً ونصيباً، فكيف ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم! أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جده إبراهيم قال:
أمنزلتي سلمى على القدم اسلـمـا فقد هجتما للشوق قلبـاً مـتـيمـا وذكرتما عصر الشباب الذي مضى وجدة وصلٍ حبله قـد تـجـذمـا وإني إذا حلـت بـبـيشٍ مـقـيمةً وحل بوج جالسـاً أو تـتـهـمـا يمانيةٌ شطت فأصبـح نـفـعـهـا فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص! علي بالأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه! فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد: صوت طار الكرى وألم الهم فاكتـنـعـا وحيل بيني وبين النوم فامتنـعـا كان الشباب قناعاً أسـتـكـن بـه وأستظل زماناً ثمت انقـشـعـا فاستبدل الرأس شيباً بعـد داجـيةٍ فينانةٍ ما ترى في صدغها نزعـا فإن تكن ميعةٌ من باطلٍ ذهـبـت وأعقب الله بعد الصبوة الورعـا فقال له الوليد: صدقت يا عبيد! أنى لك هذا؟ قال: هو من عند الله. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الوليد: يزيد في الخلق ما يشاء. قال ابن سريج: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. قال الوليد: لعلمك والله أكبر وأعجب إلي من غنائك! فأشار الوليد إلى بعض الخدم، فغطوه بالخلع ووضعوا بين يديه كيساً من الدنانير وبدراً من الدراهم، ثم قال الوليد بن عبد الملك: يا مولى بني نوفل بن الحارث، لقد أوتيت أمراً جليلاً. فقال ابن سريج: يا أمير المؤمنين! لقد آتاك الله ملكاً عظيماً وشرفاً عالياً، وعزاً بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله. فأدام الله لك ما ولاك، وحفظك فيما استرعاك، فإنك أهلٌ لما أعطاك، ولا نزعه منك إذ رآك له موضعاً. قال: يا نوفلي، وخطيبٌ أيضاً! قال ابن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلمت، وبعزك بينت. وقد كان أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاري وعدي بن الرقاع العاملي. فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج، فأنزلا منزلاً إلى جنب ابن سريج. فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحب إلينا من قربك يا مولى بني نوفلٍ، وإن في قربك لما يلذنا ويشغلنا عن كثيرٍ مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلة شكرٍ! فقال له عدي: كأنك يابن اللخناء تمن علينا! علي وعلي إن جمعنا وإياك سقف بيتٍ أو صحن دارٍ “إلا ” عند أمير المؤمنين. وأما الأحوص فقال: أو لا تحتمل لأبي يحيى الزلة والهفوة! وكفارة يمين خيرٌ من عدم المحبة، وإعطاء النفس سؤلها خيرٌ من لجاجٍ في غير منفعة! فتحول عدي، وبقي عنده الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج وأدخله بيتاً وأرخى دونه ستراً، ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدي من كلمتيهما أن يغنى. فلما دخلا وأنشداه مدائح فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعوده. فقال عدي: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أتكلم؟ فقال: قل يا عاملي. قال: أمثل هذا عند أمير المؤمنين، ويبعث إلى ابن سريج يتخطى به رقاب قريشٍ والعرب من تهامة إلى الشأم، ترفعه أرضٌ وتخفضه أخرى فيقال: من هذا. فيقال: عبيد بن سريج مولى بني نوفلٍ بعث أمير المؤمنين إليه، ليسمع غناءه! فقال: ويحك يا عدي! أو لا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا، والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله حسناً، ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت: طائفةٌ من الجن يتغنون. فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عدي: حق لهذا أن يحمل! حق لهذا أن يحمل! – ثلاثاً – ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج، وارتحل القوم.
أليست بالتي قالـت لمولاةٍ لها ظهـرا أشيري بالسلام لـه إذا هو نحونا خطرا فقال للجماعة: هذا والله حسن! ما بالحجاز مثله ولا في غيره. وانصرفوا. أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال: قال عبد الله بن عمير الليثي لابن سريج: لو تركت الغناء! وعاتبه على ذلك. فقال: جعلت فداك! لو سمعته ما تركته. ثم قال: امرأته طالقٌ ثلاثاً إن لم تدخل الدار حتى تسمع غنائي. فالتفت عبد الله إلى رفيقٍ له كان معه فقال: ما تنتظر؟ ادخل بنا وإلا طلقت امرأة الرجل. فدخلا مع ابن سريج، فغنى بشعر الأحوص: صوت لقد شاقك الحي إذ ودعوا فعينك في إثرهم تدمع وناداك للبين غربـانـه فظلت كأنك لا تسمـع ثم قال: امرأته طالقٌ إن أنت لم تستحسنه لأتركنه. فتبسم عبد الله وخرج. نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات منها: الصوت الذي أوله في الخبر: إن طيف الخيال حـين ألـمـا هاج لي ذكرةً وأحدث هـمـا جددي الوصل يا قريب وجودي لمحبٍّ فـراقـه قـد ألـمـا
أبا لفرع لم تظعن مع الحي زينب بنفسي عن النأي الحبيب المغيب بوجهك عن مس التراب مضـنةٌ فلا تبعدي إذ كل حي سيعطـب وقال ابن سريج : فتضاءلوا في عيني حتى ساويتهم في نفسي لما رأيتهم عليه من الإعظام لي. ثم غنيتهم: ودع لبابة قبل أن تترحـلا واسأل فإن قلاله أن تسألا فطربوا وعظموني وتواضعوا لي، حتى صرت في نفسي بمنزلتهم لما رأيتهم عليه، وصاروا في عيني بمنزلتي. ثم غنيتهم: ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا فطربوا ومثلوا بين يدي ورموا بحللهم كلها حتى غطوني بها، فمثلت لي نفسي أنها نفس الخليفة وأنهم لي خولٌ، فما رفعت طرفي إليهم بعد ذلك تيهاً .
قالوا: وكيف قلت ذاك يا أبا حزرة؟ قال: مخرج كل ما أسمعتموني من الغناء من الرأس، ومخرج هذا من الصدر.
تشط غداً دار جيراننا فطرب وتحرك في أقياده. ثم غنته حبابة لحن ابن سريج المجرد في هذا الشعر، فوثب وجعل يحجل في قيده ويقول: هذا وأبيكما ما لا تعذلاني فيه، حتى دنا من الشمعة فوضع لحيته عليها فاحترقت، وجعل يصيح: الحريق الحريق. فضحك يزيد وقال: هذا والله أطرب الناس حقاً، ووصله وسرحه إلى بلده. وفاتهلما احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي فبكى، وقال: إن من أكبر همي أنت، وأخشى أن تضيعي بعدي. فقالت: لا تخف؛ فما غنيت شيئاً إلا وأنا أغنية. فقال: هاتي. فاندفعت تغني أصواتاً وهو مصغٍ إليها، فقال: قد أصبت ما في نفسي، وهونت علي أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي فزوجه إياها؛ فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وانتحله؛ فهو الآن ينسب إليه . فقال كثير بن كثير السهمي يرثيه: ما اللهو بعد عبيدٍ حين يخـبـره من كان يلهو به منه بمطلـب لله قبر عبيدٍ ما تضـمـن مـن لذاذة العيش والإحسان والطرب لولا الغريض ففيه من شمائلـه مشابهٌ لم أكن فيها بـذي أرب وقيل توفي ابن سريج بالعلة التي أصابته من الجذام بمكة في خلافة الوليد بن يزيد، ودفن في موضع بها يقال له دسم . انظر أيضاًمصادر
وصلات خارجية |
Portal di Ensiklopedia Dunia