اتجاهات الشعر في العصر العباسيبدأ العصر العباسي بظهور اتجاهين شعريين متباينين:
الاتجاه القديمويُعنى به المحافظة على طريقة القدماء في نَظْم الشعر، حيث يقوم الشاعر بنظم قصيدته بلغة وصور مستمدّة من النموذج الجاهلي القديم، محاكيًا إياه محاكاة تامة. وقد كان لعلماء اللغة تأثير في دفع الشعراء إلى النظم على طريقة القدماء، فقد جمعوا لهم اللغة والشعر الجاهلي والإسلامي، ووضعوا لهم قواعد يسيرون عليها، وكأنهم بهذا الصنيع يريدون من الشعراء ألا يَحِيدوا عن ذلك النهج، بل إنهم ظلُّوا طوال العصر يبعثون فيهم الإيمان بأن الشعر القديم هو القدوة المُثلى؛ ولعل هذا ما دعاهم إلى أن يُسْقِطوا كثيرًا من شعر المُحدَثِين لا لسبب إلا لكونه جديدًا، خرج عن المثل الشعري القديم الذي يتمسك به اللغويون تمسكًا شديدًا. ولم يكن الباعث على تلك المحافظة لغويًّا فحسب بل دينيًّا أيضًا، فقد خاف علماء الدين وعلماء اللغة معًا أن تَستَغلِق دلالات ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف على أفهام الناس؛ وخاصةً أن كثيرًا منهم كانوا حديثي عهد بالدين الإسلامي واللغة العربية. كذلك وقف الخلفاء العباسيون موقف علماء الدين واللغة، فقد حثّوا العلماء على دراسة العربية والتعمُّق فيها، وكانوا لا يَستَوزرون ولا يستكبرون إلا من حذقها، وقد كان كبار اللغويين أساتذة لمعظم الخلفاء العباسيين، وكان هؤلاء الأساتذة يَمْثلون أمام الخلفاء حين يمدحهم الشعراء، فكان لا بدَّ للشعراء أن يروقهم حتى ينالوا استحسانهم، ويرى الخلفاء ذلك منهم فيجزلوا للشعراء العطاء.[1] لذا بدأ هذا العصر بظهور طائفة من الشعراء تحتذي النموذج القديم من الشعر، وتنتهج نهج قصائده من الشعراء ذوي السليقة الفطرية الشعرية، الذين استمرَّت البادية تمدُّ بهم الحاضرة كابن الدمينة، وابن ميادة، وأبي حية النميري، وغيرهم. يقول ابن الدمينة من قصيدة يحنُّ فيها إلى موطنه نجد: أَلا يا صَبا نَجدٍ لَقَد هِجتُ مِن نَجدِ فَهَيَّجَ لي مَسراكَ وَجداً عَلى وَجدِ أَإِن هَتَفَت وَرقاءُ في رَونَقِ الضُحى عَلى فَنَنٍ غَضِّ النَباتِ مِنَ الرَندِ بَكَيتُ كَما يَبكي الحَزينُ صَبابَةً وَذُبتُ مِنَ الحُزنِ المُبَرِّحِ وَالجَهدِ وحنت قلوصي من عدان إلى نجد ولم ينسها أوطانها قدم العهد إذا شئتِ لاقيتِ القِلاصَ ولا أرى لقوميَ أشبــاهاً فيألفهم وُدّي بل إن بعض الشعراء الذين حملوا شعلة التجديد كانوا يتكلَّفون الأسلوب الأعرابي في مدحهم للخلفاء، فهذا بشار بن برد - مثلًا - ينظم شعره، فيبدؤه بمقدمة طللية، يتذكر فيها ديار الأحبة بلغة وصور مستمدة من الشعر القديم. هنا يصف ناقته التي يقطع بها الصحراء ويشبهها بالحمار الوحشي على طريقة القدماء: وَلَيلٍ دَجوجِيٍّ تَنامُ بَناتُهُ وَأَبناؤُهُ مِن هَولِهِ وَرَبائِبُه حَمَيتُ بِهِ عَيني وَعَينَ مَطِيَّتي لَذيذَ الكَرى حَتّى تَجَلَّت عَصائِبُه وَماءٍ تَرى ريشَ الغَطاطِ بَجَوِّهِ خَفِيِّ الحَيا ما إِن تَلينُ نَضائِبُه قَريبٍ مِن التَغريرِ ناءٍ عَن القُرى سَقاني بِهِ مُستَعمِلُ اللَيلِ دائِبُه حَليفُ السُرى لا يَلتَوي بِمَفازَةٍ نَساهُ وَلا تَعتَلُّ مِنها حَوالِبُه أَمَقُّ غُرَيرِيٌّ كَأَنَّ قُتودَهُ عَلى مُثلَثٍ يَدمى مِنَ الحُقبِ حاجِبُه ولم يكن بشار وحده ممن يسير على النهج القديم في بعض قصائده، فهذا أبو نواس أحد المولدين المجددين، يَنْظِم بنفس الأسلوب فيقول مادحًا وواصفًا ركوبة ورحيله إلى الممدوح: عَسَفتُها عَلى خَطَر وَغَرَرٍ مِنَ الغُرَر بِبازِلٍ حينَ فَطَر يَهُزُّهُ جِنُّ الأَشَر لا مُتَشَكٍّ مِن سَدَر وَلا قَريبٌ مِن خَوَر ويمكن القول إن قوة التيار القديم قد اتخذت في هذا العصر مظهرين:
الاتجاه الجديدظهر الشعراء المجددون (المولَّدون) في بداية العصر العباسي بنهج شعري جديد، وثقافة واسعة، ورغبة في التعبير عن عصرهم ومشاعرهم، وكانت الحاضرة التي يعيشونها، والازدهار العلمي والرقي الفكري دافعًا لهم إلى البحث عن الجديد في موضوعات الشعر وأسلوبه. وقد غلب التيار على الشعر في العصر العباسي إذا قارناه بالتيار القديم، ومنذ بداية هذا العصر نجد بشار بن برد وأبا نواس وأبا العتاهية ومسلم بن الوليد وأبا تمام وغيرهم يحاولون هذا التجديد، وإذا كان النقاد اللغويون قد وقفوا ضد هذا الاتجاه فقد ظهرت طبقة من النقاد شجَّعته ووقفت إلى جانبه. وعلى هذا النحو دفع التحضَّر شعراء العصر العباسي إلى استحداث أسلوب مولََّد جديد، وهو أسلوب يعتمد على الألفاظ الواسطة بين لغة البدو الزاخرة بالكلمات الوحشية، ولغة العامة الزاخرة بالكلمات المبتذلة، أسلوب وسط بين الغرابة والابتذال، يحافظ على مادة اللغة ومقوِّماتها التصريفية والنحوية، ويلائم بينها وبين حياة العباسيين المتحضرة. وبشار في طليعة من أّرْسوا هذا الأسلوب المولد الجديد، وأسلوبه يتميز بالرصانة والصفاء والرونق. وتلاه جيل من الشعراء، توزعوا بين من يُؤثرون الجزالة وقوة البناء، مثل مسلم بن الوليد وأبي تمام، ومن يؤثرون الليونة والسهولة، مثل أبي العتاهية وأبي نواس عدا شعره الرسمي (شعر المديح)، فكان يحتفظ فيه بكل ما يمكن من الجزالة.[1] مثاليعبِّر أبو نواس عن موقف هؤلاء الشعراء في قصيدته التي مطلعها: ما لي بِدارٍ خَلَت مِن أَهلِها شُغُلُ وَلا شَجاني لَها شَخصٌ وَلا طَلَلُ فيقول فيها: لا الحزن مني برأى العين أعرفه وليس يعرفني سهل ولا جبل لا أَنْعَتُ الرَّوْضَ إِلَّا مَا رَأَيْتُ بِهِ قَصْــرًا مُنِيفًا عَلَيهِ النَّخْلُ مُشْـتَمِلُ فهناك من صفتي إن كنت مختبرا ومخبرا نفرا عني إذا سألوا فالشاعر يرفض مسلك القدماء في الوقوف على الأطلال، وقطع الفيافي، ووصف جبال البيد، فهو لا ينعت إلا ما يرى من رياض وقصور. وهذا بشار يستهزئ بالبكاء على الأطلال، بالرغم من أنه التزمه في أكثر قصائده تقليدًا لا حبًّا، فيقول: كَيفَ يَبكي لِمِحبَسٍ في طُلولِ مَن سيبمي لِيوم حبس طَويلِ إِنَّ في البعث وَالحِسابِ لَشُغلاً عَن وُقوفٍ برَسمٍ دار مُحيلِ لذلك كانت الدعوة إلى نبذ المقدمة الطللية للقصيدة، والبدء بموضوع آخر يناسب البيئة الجديدة والحضارة المترفة دعوى لها ما يبررها واتبعها كثيرون؛ حتى خرج البعض إلى عمود الشعر (طريقته الموروثة عن العرب في وزنه وقافيته وأسلوبه)، فوحَّدوا موضوعه، وأصبحت القصيدة تدور حول موضوع واحد. وقد كثرت الحكم المنقولة لديهم من التراث الفارسي، ونراها تؤثر في الصور التي عبَّر بها الشعراء، فهذا أبو تمام يسمع الحكمة التي تقول: (إن الحازم يكره القتال ما وجد بُدًّا منه، لأن النفقة فيه من النفس، والنفقة غيره من المال)، يقول: كم بين قوم إنما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسا الصنعة الفنيةوقد ازداد اعتماد هؤلاء الشعراء على مظاهر الصنعة الفنية والمحسنات البديعية، والتي بدأت في العصر العباسي باهتمام بشار وأبي تمام، ثم اعتماد مسلم بن الوليد عليها. مراجع |